الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***
1142- مالك أنه سأل بن شهاب عن ظهار العبد فقال نحو ظهار الحر قال مالك يريد أنه يقع عليه كما يقع على الحر قال مالك وظهار العبد عليه واجب وصيام العبد في الظهار شهران قال مالك في العبد يتظاهر من امرأته إنه لا يدخل عليه إيلاء وذلك أنه لو ذهب يصوم صيام كفارة المتظاهر دخل عليه طلاق الإيلاء قبل أن يفرغ من صيامه قال أبو عمر أما قوله في العبد يتظاهر من امرأته أنه لا يدخل عليه إيلاء فهو أصل مذهبه أنه لا يدخل عنده على المظاهر إيلاء حرا كان أو عبدا إلا أن يكون مضارا وهذا ليس بمضار إذا ذهب يصوم لكفارته. وأما قوله لذلك أنه لو ذهب يصوم صيام المتظاهر دخل عليه طلاق الإيلاء قبل أن يفرغ من صيامه فإن هذا القول أدخله مالك على من يقول من المدنيين وغيرهم أن بانقضاء أجل الإيلاء يقع الطلاق وهو يقول إن أجل إيلاء العبد شهران فقال مالك لو وقع الطلاق بانقضاء أجل إيلاء العبد وهو شهران لم تصح له كفارة وهو لا يكفر إلا بالصوم فكيف يكون مكفرا ويلزمه الطلاق هذا محال قال أبو عمر ذكر بن عبدوس قال قلت لسحنون فإذا لم يدخل على العبد الإيلاء فما تصنع المرأة قال ترفعه إلى السلطان فإما فاء وإما طلق عليه وذكر بن المواز عن بن القاسم روى عن مالك أنه إذا تبين ضرورة ومنعه سيده الصوم أنه يضرب له أجل الإيلاء قال وهذا خلاف ما قاله في ((موطئه)) وذكر بن حبيب عن أصبغ أنه إذا منعه سيده من الصيام فليس بمضار وقال بن الماجشون ليس لسيده أن يمنعه من الصيام لأنه قد أذن له في النكاح وهذا من أسباب النكاح قال بن حبيب وهو قول بن شهاب ويحيى بن سعيد قال أبو عمر لا خلاف علمته بين العلماء أن ظهار العبد لازم وأن كفارته المجتمع عليه الصوم واختلفوا في العتق والإطعام فأجاز للعبد العتق إن أعطاه سيده ما يعتق أبو ثور وداود وأبى ذلك سائر العلماء. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وعثمان البتي والحسن بن حي لا يجزئه إلا الصوم ولا يجزئه العتق ولا الإطعام وروى وكيع عن الثوري في العبد يظاهر الصوم أحب إلي من الإطعام وقال الأوزاعي إذا طاق الصيام صام وإن لم يستطع يستكره أهله على الإطعام عنه وقال بن القاسم عن مالك إن أطعم بإذن مولاه أجزأه وإن أعتق بإذنه لم يجزئه وأحب إلينا أن يصوم قال بن القاسم ولا أرى هذه المسألة إلا وهما مني لأنه إذا قدر على الصوم لم يجز الإطعام في الحر فكيف العبد وعسى أن يكون جواب المسألة في كفارة اليمين بالله ولا يجزئه العتق في شيء من الكفارات والصوم في كفارة اليمين أحب إلي من الإطعام والإطعام يجزئ بإذن المولى وفي نفسي منه شيء قال أبو عمر هذه المسألة مبنية على ملك العبد والاحتجاج لمن قال العبد يملك ومن قال لا يملك ليس هذا موضعه وقد أكثروا من ذلك وليس للمولى منع العبد من الصوم لأنه حق للمرأة أوجبه لها النكاح فلها المطالبة به فصار كحق الله في الصوم الواجب والله أعلم قال مالك إطعام العبد إذا أذن له سيده كإطعام الحر ستين مسكينا وهذا أيضا لا أعلم فيه خلافا والله أعلم. 1143- مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت كان في بريرة ثلاث سنن فكانت إحدى السنن (الثلاث) أنها أعتقت فخيرت في زوجها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الولاء لمن أعتق)) ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة تفور بلحم فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ألم أر برمة فيها لحم)) فقالوا بلى يا رسول الله ولكن ذلك لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((هو عليها صدقة وهو لنا هدية)). قال أبو عمر قد تكلمنا على ما في حديث بريرة في باب هشام بن عروة من ((التمهيد)) وأتينا من تخريج وجوهه وتبيين معانيه بما فيه الشفاء لمن نظر فيه ونذكر ذلك كله إن شاء الله في باب العتق في هذا الكتاب فهناك يأتي حديث هشام بن عروة وغيره في باب مصير الولاء لمن أعتق ونذكر ها هنا مسائل خيار الأمة وغيرها من معاني الخيار الذي له قصد مالك بترجمة الباب وإدخاله إياه في هذا الكتاب وكذلك نذكر ها هنا أيضا خيار الأمة وغيرها من معاني الخيار ولحم بريرة والصدقة به والهدية ونبين ذلك بمبلغ وسعنا وبالله - عز وجل - عوننا وتوفيقنا لا بسواه فأما قول عائشة - رضي الله عنها - أن بريرة أعتقت فخيرت في زوجها فكانت سنة فإن من ذلك سنة مجتمعا عليها ومنها ما اختلف فيه فأما المجتمع عليه الذي لا خلاف بين العلماء فيه أن الأمة إذا أعتقت تحت عبد قد كانت زوجت منه فإن لها الخيار في البقاء معه أو مفارقته فإن اختارت البقاء معه في عصمته لزمها ذلك ولم يكن لها فراقه بعد وإن اختارت مفارقته فذلك لها هذا ما لا خلاف فيه بين العلماء واختلفوا في وقت خيار الأمة إذا أعتقت فقال مالك والشافعي وأصحابهما والأوزاعي لها الخيار ما لم يمسها زوجها قال الشافعي ما أعلم في ذلك وقتا إلا ما قالت حفصة - رضي الله عنها قال أبو عمر روي عن حفصة وأخيها عبد الله بن عمر أن للأمة الخيار إذا أعتقت ما لم يمسها زوجها. 1144- روى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول في الأمة تكون تحت العبد فتعتق أن الأمة لها الخيار ما لم يمسها قال مالك وإن مسها زوجها فزعمت أنها جهلت أن لها الخيار فإنها تتهم ولا تصدق بما ادعت من الجهالة ولا خيار لها بعد أن يمسها. 1145- مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير أن مولاه لبني عدي يقال لها زبراء أخبرته أنها كانت تحت عبد وهي أمة يومئذ فعتقت قالت فأرسلت إلي حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فدعتني فقالت إني مخبرتك خبرا ولا أحب أن تصنعي شيئا إن أمرك بيدك ما لم يمسسك زوجك فإن مسك فليس لك من الأمر شيء قالت فقلت هو الطلاق ثم الطلاق ثم الطلاق ففارقته ثلاثا قال أبو عمر لا أعلم مخالفا لعبد الله وحفصة ابني عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما في أن الخيار لها ما لم يمسها زوجها وفي حديث بن عباس في قصة بريرة ما يشهد بصحة قولهما وقد روي عن النبي - عليه السلام مثل ذلك حدثني عبد الله قال حدثني محمد قال حدثني أبو داود قال حدثني عبد العزيز بن يحيى الحراني قال حدثني محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن أبي جعفر وعن أبان بن صالح عن مجاهد وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن بريرة أعتقت وهي عند مغيث عبد لآل أبي أحمد وخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها ((إن قربك فلا خيار لك)). وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا علمت بالعتق وبأن لها الخيار فخيارها على المجلس وقال الأوزاعي إذا لم تعلم بأن لها الخيار حتى غشيها زوجها فلها الخيار حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن وضاح قال حدثني يوسف بن عدي قال حدثني عبدة بن سليمان عن سعيد عن أيوب وقتادة عن عكرمة عن بن عباس أن زوج بريرة كان عبدا أسود يوم أعتقت فكأني - والله - أنظر له في طرق المدينة يوجهها وأن دموعه لتنحدر على لحيته يتبعها يتراضيها لتختاره فلم تفعل قال أبو عمر في هذا الحديث ما يبطل أن يكون خيارها على المجلس لأن مشيها في المدينة لم يبطل خيارها وفيه أيضا حجة لمن قال لا خيار لها تحت الحر لأن خيارها إنما وقع من أجل كونها زوجها عبدا والله أعلم وفيه ما يعضد قول من قال من العلماء إن زوجها كان عبدا وهم عروة والقاسم وجمهور فقهاء الحجاز والمغرب والشام ورواه عروة والقاسم عن عائشة حدثنا عبد الله قال حدثني محمد قال حدثني أبو داود قال حدثني عثمان بن أبي شيبة قال حدثني جرير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قصة بريرة قال وكان زوجها عبدا فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها ولو كان حرا ما خيرها قال حدثني عثمان بن أبي شيبة قال حدثني حسين بن علي والوليد بن عقبة عن زائدة عن سماك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أن بريرة خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان زوجها عبدا. وأما اختلافهم في الأمة تعتق تحت الحر فقال مالك وأهل المدينة وأصحابهم والأوزاعي والليث والشافعي إذا أعتقت الأمة تحت الحر فلا خيار لها وبه قال أحمد وإسحاق وهو قول بن أبي ليلى ومن حجتهم أنها لم يحدث لها حال ترتفع بها عن الحر فكأنهما لم يزالا حرين ولما لم ينقص حال الزوج عن حالها ولم يحدث به عيب لم يكن لها خيار وقد أجمع الفقهاء أن لا خيار لزوجة العنين إذا ذهبت العنة قبل أن يقضى لها بفراقه وكذلك سائر العيوب زوالها ينفي الخيار فقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي لها الخيار حرا كان زوجها أو عبدا ومن حجتهم أن الأمة لم يكن لها في إنكاح مولاها إياها رأي من أجل أنها كانت أمة فلما عتقت كان لها الخيار ألا ترى إلى إجماعهم على أن الأمة يزوجها سيدها بغير إذنها فإذا كانت حرة كان لها الخيار الذي لم يكن لها في حال أموتها قالوا وقد ورد تخيير بريرة وليس في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها إنما وجب لك الخيار من أجل كون زوجك عبدا فالواجب أن يكون لها الخيار على كل حال قالوا وقد روي في قصة بريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها ((قد ملكت نفسك فاختاري)). قالوا فكل من ملكت نفسها اختارت تحت حر كانت أو عبد ورووا عن الأسود عن عائشة أن زوج بريرة كان حرا ذكر أبو بكر قال حدثني حفص عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أنها اشترت بريرة فعتقتها فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لها زوج حر ورووا عن سعيد بن المسيب مثله وهو قول مجاهد وبن سيرين والشعبي وإبراهيم كل هؤلاء يقولون تخير تحت الحر والعبد وقالوا من قال إن زوج بريرة كان حرا فقوله أولى لأن الرق ظاهر والحرية طارئة ومن أنبأ عن الباطن كان الشاهد دون غيره قال أبو عمر أما احتجاجهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لبريرة ((قد ملكت نفسك فاختاري)) فإنه خطاب ورد في من كانت تحت عبد فأما من أعتقت تحت حر فلم تملك بذلك نفسها لأنه ليس في حريتها شيء يوجب ملكها لنفسها. وأما رواية الأسود بن يزيد عن عائشة أن زوج بريرة كان حرا فقد عارضه عن عائشة من هو مثله أو فوقه بل هو ألصق بعائشة وأعلم بها منه وذلك القاسم بن محمد أخيها وعروة بن الزبير بن أختها رويا عن عائشة أن زوج بريرة كان عبدا رواه عبد الرحمن بن القاسم وأسامة بن زيد عن القاسم عن عائشة وفي حديث عروة في قصة زبراء أن الزوج كان عبدا ويشهد بصحة روايتها عن عائشة الحديث عن بن عباس أن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى مغيثا لبعض بني مخزوم حدثني سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني عثمان قال حدثني همام قال حدثني قتادة عن عكرمة عن بن عباس أن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى مغيثا فقضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع قضيات أن مواليها اشترطوا الولاء فقضى أن الولاء لمن أعطى الثمن وخيرها وأمرها أن تعتد وتصدق عليها بصدقة فأهدت منها إلى عائشة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ((هو لها صدقة ولنا هدية)) واختلف الفقهاء في فرقة المعتقة إذا اختارت فراق زوجها فقال مالك والأوزاعي والليث بن سعد هو طلاق بائن وممن قال إن اختيارها لنفسها واحدة بائنة قتادة وعمر بن عبد العزيز قال مالك هو طلاق بائن إلا أن تطلق نفسها ثلاثا فإن طلقت نفسها ثلاثا فذلك لها ولها أن تطلق نفسها ما شاءت من الطلاق فإن طلقت نفسها واحدة فهي بائنة وفي ((الموطأ)) في هذا الباب قال مالك في الأمة تكون تحت العبد ثم تعتق قبل أن يدخل بها أو يمسها إنها إن اختارت نفسها فلا صداق لها وهي تطليقة وذلك الأمر عندنا قال أبو عمر لا معنى للثلاث في طلاق الزوجة ولا في طلاق العبد عند من جعل الطلاق بالرجال لأن طلاق الأمة تحت العبد تطليقتان وطلاق العبد تطليقتان وقد ذكر أبو الفرج أن مالكا لا يجيز لها أن توقع إلا واحدة فتكون بائنة أو تطليقتين فلا تحل له إلا بعد زوج وهو أصل مذهب مالك وروى بن نافع عن مالك أن للعبد الرجعة إن عتق قال بن نافع ولا أرى ذلك ولا رجعة له وإن عتقها قال الأوزاعي ولو أعتق زوجها في عدتها فإن بعض شيوخنا يقول هو أملك بها وبعضهم يقول هي بائنة قال أبو عمر لا معنى لقول من قال إنها طلقة رجعية لأن زوجها لو ملك رجعتها لم يكن لاختيارها نفسها معنى وأي شيء كان يفيدها اختيارها إذا ملك زوجها رجعتها وروي عن بن القاسم أن زوجها إن أعتق قبل أن تختار نفسها كان لها الخيار وهذا أيضا لا حجة له على مذهب الحجازيين لأن العلة التي من أجلها كان لها الخيار قد ارتفعت كالعنين تزول عنته قبل فراق امرأته له وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والحسن بن حي والشافعي وأصحابه إن اختارت المعتقة نفسها ففرقتها فسخ بغير طلاق وهو قول أحمد وإسحاق وفي تخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة بعد أن بيعت من عائشة دليل على أن بيع الأمة ليس بطلاق لها وستأتي هذه المسألة وما للعلماء فيها في صدر كتاب البيوع إن شاء الله. وأما قوله في الحديث ألم أر برمة فيها لحم إلى آخر هذا الحديث ففيه إباحة أكل لحم وأنه من آدام الفضلاء الصالحين وذلك رد على من كرهه من الصوفية واحتج بقول عمر إياكم وأكل اللحم فإن له ضراوة كضراوة الخمر وهذا من عمر قول خرج على من خشي منه إيثار التنعم في الدنيا والمداومة على الشهوات وشفاء النفوس من اللذات ونسيان الآخرة والإقبال على الدنيا والرغبة فيها وكذلك كان يكتب إلى عماله إياكم والتنعم وزي العجم واخشوشنوا ولم يرد - رضي الله عنه - تحريم شيء أحله الله تعالى ولا يحظر ما أباحه الله وقول الله عز وجل أولى ما امتثل واعتمد عليه قال الله عز وجل (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) [الأعراف 32]. يعني الحلال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((سيد آدام الدنيا والآخرة اللحم)) وفي هذا الحديث أيضا بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل الصدقة وكان يأكل الهدية لما في الهدية من تآلف القلوب والدعاء إلى المحبة والألفة وجائز عليها الثواب فترتفع المنة ولا يجوز ذلك في الصدقة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها خيرا منها فترتفع المنة والآثار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة كثيرة جدا قد ذكرنا منها ما في هذا الموضع من ((التمهيد)) ما فيه كفاية وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني)) وقد تقدم القول في معنى هذا الحديث في كتاب الزكاة والحمد لله ولما كانت الصدقة يجوز فيها التصرف للفقير للبيع والهبة والهدية والعوض وغير العوض بصحة ملكه لها وأهدتها بريرة إلى بيت مولاتها عائشة حلت لها وللنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قصد بالهدية إليه وتحولت عن معنى الصدقة بملك المتصدق عليه بها إلى معنى الهدية الحلال للنبي - عليه السلام وكذلك قال صلى الله عليه وسلم ((هو عليها صدقة)) يعني ممن تصدق بها عليها وهي لنا من قبلها هدية جائز أن يثيبها عليها بمثلها وبأضعافها على المعهود منه صلى الله عليه وسلم وليس ذلك شأن الصدقة. 1146- مالك إنه بلغه عن سعيد بن المسيب أنه قال إيما رجل تزوج امرأة وبه جنون أو ضرر فإنها تخير فإن شاءت قرت وإن شاءت فارقت قال أبو عمر قد تقدم القول في رد المرأة بالعيوب الأربعة وما للعلماء في ذلك من المنازعة والقول في تخيير المرأة إذا كانت تلك العيوب بالزوج على نحو ذلك روى معمر عن الزهري أنه قال إذا تزوج الرجل امرأة وفي الرجل عيب لم تعلم به جنون أو جذام أو برص خيرت وقال قتادة تخير في كل داء عضال وقال الحكم لا خيار لها في البرص وتخير في الجنون والجذام وما روي عن عمر وقول مالك وأصحابه والليث والشافعي والكوفيين قال مالك وللمرأة مثل ما للرجل إذا تزوجها وبه جنون أو جذام أو برص أو عنه فلها الخيار إن شاءت بقت معه وإن شاءت فارقته إلا أن يمسها العنين قال أبو عمر للعنين باب يأتي فيه أحكام - إن شاء الله تعالى وقال محمد بن الحسن إذا وجدت المرأة زوجها على حال لا تطيق المقام معه من جذام أو نحوه فلها الخيار في الفسخ كالعنين. وقال الشافعي بعد ذكره رد المرأة بالعيوب الأربعة وكذلك هي فيه إن اختارت فراقه قبل المسيس فلا مهر لها ولا متعة وإن لم تعلم حتى أصابها فاختارت فراقه فلها المهر مع الفراق والذي يكون به مثل الرتق بها أن يكون مجبوبا فأخيرها مكانها وأيهما تركته أو وطىء فلا خيار وقال في ((القديم)) إن حدث فلها الفسخ وليس له وقال المزني أولى بقوله أنهما سواء فيما يحدث كما كانا سواء فيه قبل الحدث مسألة التخيير. 1147- مالك عن بن شهاب أنه سمعه يقول إذا خير الرجل امرأته فاختارته فليس ذلك بطلاق قال مالك وذلك أحسن ما سمعت قال أبو عمر على هذا جمهور أهل العلم وهو المأثور الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خير نساءه فاخترنه فلم يكن في ذلك طلاق والخلاف في هذا شذوذ وروي عن الحسن البصري أنها إذا اختارت زوجها فواحدة وإن اختارت نفسها فثلاث والذي عليه جماعة الفقهاء وعامة العلماء أنها إذا اختارت زوجها فلا شيء وقد روي ذلك عن علي وزيد أيضا أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثني عبد الله قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني مسدد قال حدثني أبو عوانة عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة قالت خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعد ذلك شيئا أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن وضاح قال حدثني سحنون بن سعيد قال حدثني عبد الله بن وهب قال حدثني موسى بن علي ويونس بن يزيد عن بن شهاب قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عائشة - زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لما أمر رسول الله بتخيير أزواجه بدأ بي فقال إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك)). قالت وقد علمت أن أبواي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت ثم تلا هذه الآية (يأيها النبي قل لأزوجك إن كنتن تردن الحيوة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا) [الأحزاب 28]. قال فقالت أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة قالت عائشة ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت فلم يكن ذلك حين قاله لهن صلى الله عليه وسلم واخترنه طلاقا من أجل أنهن اخترنه قال بن وهب. وحدثني مالك عن بن شهاب أنه قال لقد خير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمره الله بذلك فاخترنه بذلك فلم يكن تخييرهن طلاقا قال بن وهب. وحدثني رجال من أهل العلم عن عائشة وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وعطاء بن أبي رباح وسليمان بن يسار وربيعة بن أبي عبد الرحمن وبن شهاب وعمر بن عبد العزيز كلهم يقول إن اختارت زوجها فليس بشيء قال مالك في المخيرة إذا خيرها زوجها فاختارت نفسها فقد طلقت ثلاثا وإن قال زوجها لم أخيرك إلا واحدة فليس له ذلك وذلك أحسن ما سمعته قال مالك وإن خيرها فقالت قد قبلت واحدة وقال لم أرد هذا وإنما خيرتك في الثلاث جميعا أنها إن لم تقبل إلا واحدة أقامت عنده على نكاحها ولم يكن ذلك فراقا إن شاء الله تعالى قال أبو عمر فرق مالك بين التمليك والخيار فقال في التمليك ما قدمنا ذكره عنه في أبوابه من هذا الكتاب أن له أن يناكرها ويحلف على ما أراد من عدد الطلاق وقال في الخيار إذا اختارت نفسها فهو الطلاق كله فإن أنكر ذلك زوجها فلا تكره له ولا ينفعه قال وإن اختارت واحدة فليس ذلك بشيء قال وإنما الخيار البتة إما أخذته وإما تركته واختلف قوله في الخيار والتمليك هل هما على المجلس أم ذلك بيدها حتى تقضي فيه فقال مرة وهو المشهور المعمول به من قوله إن الخيار على المجلس وأنهما إن افترقا من مجلسهما قبل أن يقضي في الخيار فلا خيار لها ومرة قال إذا خير امرأته فالأمر بيدها تختار فيه فراقه إن شاءت وإن قاما من المجلس ولها الخيار حتى توقف أو يجامعها وقد بينا هذا في ((التمهيد)) فاختار بن القاسم القول الأول وقال الليث والشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي الخيار على المجلس وهو قول جمهور التابعين بالحجاز والعراق كلهم يقول بمعنى واحد الخيار لها ما لم يقوما من مجلسهما وقال الزهري وقتادة المخيرة والمملكة أمرها بيدها حتى تقضي فيه وهو قول عثمان البتي وبه قال أبو عبيد واختاره محمد بن نصر المروزي وقد ذكرنا الحجة على من تأول في حديث عائشة أن الخيار ليس على المجلس في باب التمليك. وأما بسط أقوالهم وحكاية ألفاظهم فقال الشافعي لا أعلم خلافا أنها لو طلقت نفسها قبل أن يفترقا من المجلس أن الطلاق يقع عليها قال ويجوز أن يقال لهذا إجماع. وقال الشافعي إذا خيرها فلها الخيار ما لم تأخذ في غير ما خاطبها به أو تقم من مجلسه أو تمازحه قال مالك إن مضت ساعة قدر ما يقضي فيه ما جعل لها لا يتكلم ثم تكلمت فذلك لها وإن لم تقل شيئا حتى تقول سقط الخيار وهو لها ما دامت في المجلس فإن عجل الزوج وقام به قبل أن تقضي كلامها فذلك ليس بشرط قبل أن تقضي أو يتفرقا قال ولا أحب لأحد أن يملك امرأته أمرها ويجعل لها الخيار إلى أجل معين ولا بأس باليوم وما أشبهه في خيارها وتوقف حتى تختار أو ترد ذلك إليه وقال أبو يوسف وأبو حنيفة ومحمد والثوري الخيار لها ما دامت في مجلسها وإن مكثت يوما ما لم تقم أو تأخذ في عمل فإن كانت قائمة فجلست فهي على خيارها قال أبو حنيفة ولا ألتفت إلى قيام الزوج وخروجه عنها قال وإن قال أمرك بيدك اليوم فهو بيدها حتى ينقضي اليوم وقال الأوزاعي إذا خير امرأته ثم افترقا قبل أن يقول شيئا فلا شيء لها وقال عثمان البتي لو وقع عليها بعد ما ملكها أو خيرها فهي على خيارها والله أعلم لا أعلم أحدا قاله غيره وقال مغيرة الضبي إذا خيرها فسكتت فهو رضا بالزوج وإن كانت في مجلسها وقال ربيعة ويحيى بن سعيد إذا خيرها فتفرقا قبل أن تحدث شيئا سقط الخيار وقال ربيعة فإن خيرها إلى أجل فليس لها في نفسها خيار إلا إلى الأجل فإن اختارت نفسها عند الأجل فهي البتة. وقال مالك ذلك لها وإن خيرت ذلك بعد الأجل لتنظر فيه وقال الليث إذا انقضى الأجل ولم تقض شيئا رد الأمر إلى الزوج. وقال أحمد وإسحاق في الخيار إلى الأجل لها الخيار ما لم يغشها ويرجع في الخيار إذا شاء فإن لم يكن الخيار إلى أجل فهو لها حتى تقوم من مجلسها أو تأخذ من غير المعنى الذي كانا فيه وقال عبيد الله بن الحسن إن جعل لها الخيار في المجلس فهو على المجلس وإن جعله مرسلا لم أرجع لذلك غاية وإن طاوعته له الرجوع إلى القضاء ذلك الوقت والأجل كذلك لو جعله بيدها قال أبو عمر قد مضى قول مالك ومذهبه في الخيار وما يلزم فيه من الطلاق إن اختارت نفسها. وقال الشافعي ليس في الطلاق خيار إلا أن يريده الزوج بقوله اختاري وتطلق نفسها فإن طلقت نفسها بقوله ذلك فكذلك إليه لا إليها ما نوى من الطلاق وأراده لزمه وإن لم يرد طلاقا فليس بطلاق وإن أراد واحدة فهي رجعية والتخيير والتمليك عنده سواء. وقال أبو حنيفة من خير امرأته وهو ينوي ثلاثا فهي له ثلاثا إن طلقت نفسها ثلاثا وإن قالت قد اخترت نفسي ولا نية له فلا يقع عليها إلا تطليقة واحدة وسواء قالت قد طلقت نفسي أو قالت قد اخترت نفسي وقال الثوري إذا خيرها فاختارت نفسها فهي واحدة بائنة والتخيير والتمليك عنده سواء وكذلك هو عند الكوفيين وقول عبيد الله بن الحسن في الخيار كقول الثوري وأبي حنيفة في أنها واحدة بائنة وقوله في التمليك نحو قول مالك وقد مضى ذلك وقال بن أبي ليلى إن اختارت نفسها فواحدة تملك الرجعة قال أبو عمر انظر فيه فهو خلاف بين لقوله في التمليك وفيه نظر. 1148- مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصاري أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من هذه)) فقالت أنا حبيبة بنت سهل يا رسول الله قال ((ما شأنك)). قالت لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ((هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر)) فقالت حبيبة يا رسول الله كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس ((خذ منها)) فأخذ منها وجلست في بيت أهلها. 1149- مالك عن نافع عن مولاه لصفية بنت أبي عبيد أنها اختلعت من زوجها بكل شيء لها فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر قال أبو عمر هذا الحديث أصل في الخلع عند العلماء واجمع الجمهور منهم أن الخلع والفدية والصلح أن كل ذلك جائز بين الزوجين في قطع العصمة بينهما وأن كل ما أعطته على ذلك حلال له إذا كان مقدار الصداق فما دونه وكان ذلك من غير إضرار منه بها ولا إساءة إليها إلا بكر بن عبد الله المزني فإنه شذ فقال لا يحل له أن يأخذ منها شيئا على حال من الأحوال وزعم أن قوله عز وجل (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) [البقرة 229]. منسوخ بقوله عز وجل (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وءاتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) [النساء 20]. إلى قوله (ميثاقا غليظا) [النساء 21]. وهذا خلاف السنة الثابتة في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس أن يأخذ من زوجته ما أعطاها ويخلي سبيلها ولا ينبغي لعالم أن يجعل شيئا من القرآن منسوخا إلا بتدافع يمنع من استعماله وتخصيصه وإذا جهل قوله عز وجل (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) [البقرة 229]. أن يرضى منهما وجعل قوله عز وجل (فلا تأخذوا منه شيئا) على أنه بغير رضاها وعلى كره منها وإضرار بها صح استعمال الآيتين وقد بينت السنة في ذلك قصة ثابت بن قيس وامرأته وعليه جماعة العلماء إلا من شذ عنهم ممن هو محجوج بهم وهم حجة عليه لأنهم لا يجوز عليهم الإطباق والاجتماع على تحريف الكتاب وجهل تأويله وينفرد بغير ذلك واحد غيرهم واختلفوا في مقدار ما يجوز للرجل أن يأخذ من امرأته لاختلاعها منه فقال منهم جماعة ليس له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها على ظاهر حديث ثابت وقول امرأته يا رسول الله كل ما أعطاني عندي فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذه منها ويخلي سبيلها وروي ذلك عن طاوس وعطاء والزهري وعمرو بن شعيب ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال لا يحل له أن يأخذ منها شيئا من الفدية حتى يكون النشوز من قبلها بأن يظهر لها البغضاء وتسيء عشرته وتظهر له الكراهة وتعصي أمره فإذا فعلت ذلك حل له أن يقبل منها ما أعطاها لا يحل له أكثر مما أعطاها قال أبو حنيفة وأصحابه إذا كان النشوز من قبلها حل له أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يزداد قالوا والزيادة في القضاء جائزة وإذا كان النشوز من قبله لم يجز له أن يأخذ منها شيئا فإن فعل جاز في القضاء قال أبو عمر قولهم لا يجوز ويجوز في القضاء قول المحال والخطأ وكره سعيد بن المسيب والحسن والشعبي والحكم وحماد أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد وقال الأوزاعي كان القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال ما أرى أن يأخذ منها كل ما أعطاها ولكن ليدع لها شيئا وقال آخرون جائز له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها إذا كان النشوز والإضرار من قبلها وممن قال ذلك عكرمة ومجاهد وإبراهيم وقبيصة بن ذؤيب وهو قول مالك والشافعي وبه قال أبو ثور وقد تقدم هذا عن عبد الله بن عمر من رواية مالك عن نافع وهو مذهب عثمان - رضي الله عنه قال مالك في المفتدية التي تفتدي من زوجها أنه إذا علم أن زوجها أضر بها وضيق عليها وعلم أنه ظالم لها مضى الطلاق ورد عليها مالها قال فهذا الذي كنت أسمع والذي عليه أمر الناس عندنا قال مالك لا بأس بأن تفتدي المرأة من زوجها بأكثر مما أعطاها هذا كله قوله في ((الموطأ)) وروى بن القاسم عنه مثله وزاد قال إن كان النشوز من قبله حل له ما أعطته على الخلع إذا رضيت بذلك ولم يكن في ذلك ضرر منه بها وقال الليث إذا اختلفا في العشرة جاز الخلع بالنقصان من المهر والزيادة وقال الثوري إذا جاء الخلع من قبلها فلا بأس أن يأخذ منها ولم يقل أكثر من المهر ولا أقل قال وإن جاء من قبله فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا وقال الأوزاعي إذا كانت ناشزا جاز له أن يأخذ منها ما أعطاها وإن لم تكن ناشزا رد عليها ما أخذ منها وكان له عليها الرجعة قال ولو اختلعت منه وهي مريضة كان ذلك من ثلثها وقال الحسن بن حي إذا كانت الإساءة من قبله فليس له أن يخلعها بقليل ولا كثير وإن كانت الإساءة من قبلها والتعطيل لحقه كان له أن يخلعها على ما تراضيا عليه وكذلك إن أبغضته وكذلك قول عثمان البتي. وقال الشافعي إذا كانت المرأة المانعة ما يجب عليها لزوجها حلت الفدية للزوج قال وإذا أحل له أن يأكل ما طابت به نفسا على غير فراق حل له أن يأكل ما طابت نفسا ويأخذ عوضا بالفراق قال أبو عمر أصل هذا الباب قول الله عز وجل (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما ءاتيتموهن إلا أن يأتين بفحشة مبينة) [النساء 19]. ولهذا قال أبو قلابة ومحمد بن سيرين لا يحل للرجل الخلع حتى يجد على بطنها رجلا وهذا عندي ليس بشيء لأن الفاحشة قد تكون في البذاء والجفاء ومنه قيل للبذيء فاحش ومتفاحش وعلى انه لو اطلع منها على الفاحشة كان له لعانها وإن شاء طلقها. وأما أن يضار بها حتى تفتدي منه بمالها فليس ذلك له وما أعلم أحدا قال له أن يضارها ويسيء إليها حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة والله أعلم وقال الله عز وجل (إلا أن يخافا إلا يقيما حدود الله) [البقرة 229]. يعني في حسن العشرة والقيام بحق الزوج وقيامه بحقها فلا جناح عليهما فيما افتدت به وقوله عز وجل (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) [النساء 4]. فهذه الآيات أصل هذا الباب ومنها قامت مذاهب الفقهاء وبالله التوفيق والخلع والصلح والفدية كل ذلك سواء العصمة من الزوج لما يأخذه منها صلحا على ذلك وافتداء واختلاعا منه وهي أسماء مختلفة ومعان متفقة إلا أن منهم من يوقع الخلع على أخذ الكل والصلح على البعض والفدية على الأكثر والأقل وقد ذكرنا أصول مذاهبهم والحمد لله تعالى وبالله التوفيق. 1150- مالك عن نافع أن ربيع بنت معوذ بن عفراء جاءت هي وعمها إلى عبد الله بن عمر فأخبرته أنها اختلعت من زوجها في زمان عثمان بن عفان فبلغ ذلك عثمان بن عفان فلم ينكره وقال عبد الله بن عمر عدتها عدة المطلقة قال ابو عمر روى هذا الحديث عن نافع جماعة منهم عبيد الله بن عمر وأيوب والليث بن سعد فذكروا فيه أحكاما لم يذكرها مالك - رحمه الله - في حديث عبد الله بن عمر أنه لا نفقة للمختلعة وهذا صحيح لأنه لا نفقة إلآ لمن له عليها رجعة ورواه الليث بن سعد عن نافع انه سمع الربيع بنت معوذ بن عفراء تخبر عبد الله بن عمر أنها اختلعت من زوجها في زمن عثمان فجاء معها عمها معاذ بن عفراء إلى عثمان فقال إن ابنة معوذ اختلعت من زوجها أفتنتقل فقال عثمان تنتقل ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها ولكن لا يحل لها ان تنكح زوجا غيره حتى تحيض حيضة خشية أن يكون بها حمل فقال عبد الله بن عمر عثمان أخبرنا وأعلمنا قال أبو عمر جمهور العلماء على أن الخلع طلاق وخالف بن عباس فقال الخلع فسخ وليس بطلاق وروى بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن بن عباس أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها قال نعم لينكحها ليس الخلع بطلاق وذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها والخلع فيه ما بين ذلك فليس الخلع بشيء ثم قرأ (الطلق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن) [البقرة 229]. وقرأ (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) [البقرة 230]. قال أبو عمر خالفه عثمان وجماعة الصحابة فقالوا الخلع تطليقة واحدة إلا أن يريد به أكثر فيكون ما أراد به وسمى وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن جمهان - مولى الأسلميين عن أم بكرة الأسلمية أنها اختلعت من زوجها عبد الله بن أسيد فأتيا عثمان بن عفان في ذلك فقال هي تطليقة إلا أن تكون سميت شيئا فهو ما سميت قال أبو عمر ليس خبر جمهان هذا عند يحيى في ((الموطأ)) وهو عند جماعة من رواة ((الموطأ)). قال أبو عمر هذا يدل على أن المختلع في هذا الحديث لم يسم طلاقا ولا نواه والله أعلم ولو سماه أو نواه ما احتاج أن يقال له الخلع تطليقة واختلف العلماء في الخلع هل هو طلاق إذا لم يسم طلاقا أم لا فقال مالك هو طلاق بائن إلا أن يكون أراد أكثر فيكون على ما أراد وروي ذلك عن عمر وعلي وبن مسعود واختلف فيه عن عثمان والأصح عنه أن الخلع طلاق وبه قال الثوري وعثمان البتي والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه وهو أحد قولي الشافعي وروي عنه أن الخلع لا يقع به طلاق إلا أن ينويه أو يسميه وقال المزني قد قطع في باب الكلام الذي يقع به الطلاق أن الخلع طلاق بائن فلا يقع به إلا بما يقع به الطلاق أو ما أشبهه من إرادة الطلاق فإنه سمى عددا أو نوى عددا فهو عدد ما سمى أو نوى قال الشافعي فإن قيل فإذا جعلته طلاقا فاجعل له فيه الرجعة قيل لما أخذ من المطلقة عوضا وكان من ملك عوض شيء خرج من ملكه لم تكن له رجعة فيما ملك عليه فكذلك المختلعة وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة خلع الزوجة من زوجها تطليقة بائنة فإن نوى الطلاق ولم تكن له نية في عدد منه فكذلك أيضا هي واحدة بائنة وإن نوى ثلاثا فهي ثلاث وإن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة لأنها كلمة واحدة ولا تكون اثنتين وقال الأوزاعي الخلع تطليقة بائنة ولا ميراث بينهما فهؤلاء كلهم يقولون إن الخلع تطليقة بائنة وقال به من الصحابة من قدمنا ذكره سوى بن عباس وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وشريح والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وقبيصة بن ذؤيب ومجاهد وأبي سلمة ومكحول والزهري. وأما قول بن عباس بأن الخلع فسخ وليس بطلاق فروي عن عثمان مثله وهو قول طاوس وعكرمة وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود وقد روي عن عثمان أنه قال الخلع مع تطليقة تطليقتان وقد اختلف العلماء في المختلعة هل يلحقها طلاق أم لا ما دامت في عدتها فقال مالك إن طلقها عقيب الخلع من غير سكوت طلقت وإن كان بينهما سكوت لم تطلق وهذا يشبه ما روي عن عثمان - رضي الله عنه. وقال الشافعي لا يلحقها طلاق وإن كانت في العدة وهو قول بن عباس وبن الزبير وبه قال عكرمة والحسن وجابر بن زيد وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي يلحقها الطلاق ما دامت في العدة وهو قول سعيد بن المسيب وشريح وطاوس وإبراهيم والزهري والحكم وحماد وروي ذلك عن بن مسعود وأبي الدرداء من طريقين منقطعين ليسا بثابتين قال أبو عمر لم يختلفوا أن الخلع طلاق بائن لا ميراث بينهما فيه ومعنى البينونة انقطاع العصمة إلا بنكاح جديد فكأنها رجعية بانت بانقضاء عدتها وقد ذكرنا قول بن عباس بأنه فسخ لا طلاق واختلفوا في مراجعة المختلعة في العدة فقال جمهور أهل العلم لا سبيل له إليها إلا برضى منها ونكاح جديد وصداق معلوم وهو قول عامة التابعين بالحجاز والعراق وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وروي عن سعيد بن المسيب وبن شهاب أنهما قالا إن رد إليها ما أخذ منها في العدة أشهد على رجعتها وصحت له الرجعة روى بن أبي ذئب عن بن شهاب قال لا يتزوجها بأقل مما أخذ منها. وقال أبو ثور إن كان لم يسم في الخلع طلاقا فالخلع طلقة لا يملك فيها رجعة وإن سمى طلاقا فهو أملك برجعتها ما دامت في العدة وبه قال داود وروي مثل قول أبي ثور عن عبد الله بن أبي أوفى وماهان الحنفي واتفقوا على أنه جائز للمختلع أن يتزوجها في عدتها وقالت طائفة من المتاخرين لا يتزوجها هو ولا غيرها في العدة فشذوا عن الجماعة والجمهور. وأما رواية مالك عن نافع عن بن عمر أن المختلعة عدتها عدة المطلقة. 1151- ومالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وبن شهاب كانوا يقولون عدة المختلعة مثل عدة المطلقة ثلاثة قروء فقد اختلف السلف والخلف في ذلك فروي عن عثمان وبن عباس قالا عدة المختلعة حيضة روي ذلك عن بن عمر أيضا خلاف رواية مالك وقد روي عن عثمان أنه لا عدة عليها وقد تقدم تفسير ذلك بأنها تستبرئ رحمها بحيضة مخافة الحمل فليس ذلك باختلاف عنه وبه قال عكرمة وأبان بن عثمان وإليه ذهب إسحاق وحجتهم ما رواه سعيد بن أبي عروبة عن أبي الطفيل عن سعيد بن حمل عن عكرمة قال عدة المختلعة حيضة قضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميلة بنت أبي بن سلول قال أبو عمر روي من وجوه أن جميلة ابنة أبي بن سلول كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس فاختلعت منه كما روي ذلك في حبيبة بنت سهل وروى هشام بن يوسف عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن بن عباس أن ثابت بن قيس اختلعت منه امرأته فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة ورواه عبد الرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة مرسلا ورواه بن لهيعة عن أبي الأسود عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن ربيع بنت معوذ قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر امرأة ثابت بن قيس حين اختلعت منه أن تعتد حيضة وليست هذه الآثار بالقوية وقد ذكرت أسانيدها في ((التمهيد)). وأما الحديث بذلك عن بن عباس وبن عمر فذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر عن نافع أن الربيع أختلعت من زوجها فأتى عمها عثمان فقال تعتد بحيضة وكان بن عمر يقول تعتد ثلاث حيض حتى قال هذا عثمان فكان بن عمر يفتي به ويقول عثمان خيرنا وأعلمنا قال. وحدثني عبدة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال عدة المختلعة حيضة قال. وحدثني عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن ليث عن طاوس عن بن عباس قال عدتها حيضة. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم عدة المختلعة كعدة المطلقة إن كانت ممن تحيض بثلاثة وإن كانت ممن لا تحيض بثلاثة أشهر وروي مثل ذلك عن عمر وعلي وعن بن عمر على اختلاف عنه والحديث عن عمر وعلي من قولهم ليس بالقوي ولكن جمهور العلماء على القول بأن عدة المختلعة عدة المطلقة وممن قال بذلك سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وعمر بن عبد العزيز وبن شهاب الزهري والحسن البصري وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي ومحمد بن عياض وخلاس بن عمر وقتادة وبه قال سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وأبو عبيد ورواية عن إسحاق قال أبو عمر في حديث عثمان إنما أمر الربيع بنت معوذ حين اختلعت من زوجها ينتقل من بيتها وهذا لا يقول به أحد من الفقهاء الذين كانت تدور عليهم بالأمصار الفتوى وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم ولو اشترط عليها زوجها في حين الخلع ألا سكنى لها كان الشرط لاغ ولها السكنى كالعدة فلا يؤثر فيها الشرط وكأنه لم يذكر. وقال أبو ثور وأحمد وإسحاق وداود لا سكنى لها ولا نفقة وكذلك يقولون في المطلقة المبتوتة وهي أصل هذه المسألة وسيأتي أقوالهم فيها في موضعها - إن شاء الله تعالى وأجمع الجمهور أن الخلع جائز عند غير السلطان إلا الحسن وبن سيرين فإنهما يقولان لا يكون الخلع إلا عند السلطان وقال قتادة إنما أخذه الحسن عن زياد قال أبو عمر قد أجمعوا أن النكاح والطلاق يجوز دون السلطان فكذلك الخلع وليس كاللعان الذي لا يجوز عند السلطان قال مالك في المفتدية إنها لا ترجع إلى زوجها إلا بنكاح جديد فإن هو نكحها ففارقها قبل أن يمسها لم يكن له عليها عدة من الطلاق الآخر وتبني على عدتها الأولى قال مالك وهذا أحسن ما سمعت في ذلك قال أبو عمر إنها لا ترجع إليه إلا بنكاح جديد فقد تقدم القول في هذه المسألة وما للعلماء فيها. وأما قول مالك فإن هو نكحها إلى آخر قوله وأنه أحسن ما سمع في ذلك فعليه أكثر العلماء لأنها مطلقة قبل الدخول بها فلا عدة عليها وتتم بقية عدتها وهذا أصل مالك في الأمة تعتق في عدتها من وفاة أو طلاق أنها لا تتغير عدتها ولا تنتقل إلا في الطلاق الرجعي ولا في البائن كالحد يجب على العبد ولا يتغير بالعتق وستأتي هذه المسألة في بابها إن شاء الله تعالى وروي عن طائفة منهم الشعبي وإبراهيم النخعي في المختلعة يتزوجها زوجها في عدتها بنكاح جديد ثم يطلقها قبل الدخول بها أن عليها عدة كاملة كأنها عندهم في حكم المدخول بها أنها تعتد من العدة وهذا ليس بشيء بظاهر قول الله عز وجل (إذا نكحتم المؤمنت ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) [الأحزاب 49]. قال أبو عمر ليس لها إلا نصف الصداق عندهم ومن قال بقول الشعبي والنخعي أوجب لها الصداق كاملا قال مالك إذا افتدت المرأة من زوجها بشيء على أن يطلقها فطلقها طلاقا متتابعا نسقا فذلك ثابت عليه فإن كان بين ذلك صمات فما أتبعه بعد الصمات فليس بشيء وهذه المسألة قد تقدمت في هذا الباب ومضى فيها القول والله أعلم وهو الموفق للصواب وحسبي ونعم الوكيل. 1152- مالك عن بن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له يا عاصم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل سل لي يا عاصم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عاصم لعويمر لم تأتني بخير قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها فقال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأله عنها فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس فقال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها)). قال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مالك قال بن شهاب فكانت تلك بعد سنة المتلاعنين قال أبو عمر قد ذكرنا في ((التمهيد)) من توجيه ألفاظ هذا الحديث في الآداب وغيرها من وجوه العلم في أحكام اللعان ما ظهر لنا ونذكر ها هنا ما فيه من الفقه وأحكام اللعان أيضا بحول الله تعالى زعم بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي أن في هذا الحديث دليلا على أن الحد لا يجب بالتعريض في القذف لقول عويمر يا رسول الله ! أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل وهذا عندي لا حجة فيه لأن المعرض به غير معين ولا جاء طالبا وإنما جاء الحد على من عرض بقذف رجل يشير إليه أو يسميه في مشاتمة أو منازعة ويطلب المعرض له ما يجب له من الحد إذا كان يعلم من المعرض أنه قصد القذف للمعرض به وزوجة عويمر لم يمسها ولا أشار إليها ولا جاءت طالبة وستأتي هذه المسألة في كتاب الحدود بما للعلماء فيها ووجوه معاني أقوالهم إن شاء الله عز وجل وفي قول عويمر أيقتله فتقتلونه وسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يقل لا نقتله دليل على أن من قتل رجلا وجده مع امرأته أنه يقتل به وإن لم يأت ببينة تشهد له بزناه بها وستأتي هذه المسألة مجودة في كتاب الحدود في حديث مالك عن سهيل بن أبي صالح إن شاء الله تعالى وفيه أن الملاعنة لا تكون إلا عند السلطان وأنها ليست كالطلاق الذي ليس للرجل أن يوقعه حيث شاء وهذا إجماع من العلماء أن اللعان لا يكون إلا في المسجد الجامع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين المتلاعنين المذكورين في مسجده وذلك محفوظ في حديث بن مسعود وغيره وقد ذكرناه في ((التمهيد ويستحب جماعة من أهل العلم أن يكون اللعان في الجامع بعد العصر وفي أي وقت كان في المسجد الجامع أجزأ عندهم ولا يختلفون أن من استخلفه الإمام على الأحكام من قاض وسائر الحكام أنه يقوم في اللعان إذا تحاكموا إليه فيه مقام الإمام وفي قول عويمر أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا دليل على أن الملاعنة تجب بين كل زوجين والله أعلم لأنه لم يخص رجلا من رجل ولا امرأة من امرأة ونزلت آية اللعان على هذا السؤال فقال تعالى (والذين يرمون أزوجهم) [النور 6]. ولم يخص زوجا من زوج وهذا موضع اختلف فيه العلماء وهي مسألة سنذكرها حيث ذكره مالك من هذا الباب إن شاء الله تعالى وفيه أن الحكم يحضر مع نفسه للمتلاعن قوما يشهدون ذلك ألا ترى إلى قول سهل بن سعيد فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي شهود سهل لذلك دليل على جواز شهود الشباب مع الشيوخ عند الحكام لأن سهلا كان يومئذ بن خمس عشرة سنة حدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثني عبيد الله بن عمر قال حدثني يزيد بن زريع قال حدثني محمد بن إسحاق عن الزهري قال قلت لسهل بن سعد بن كم كنت يومئذ يعني يوم المتلاعنين قال بن خمس عشرة سنة وقد كان عمر بن الخطاب يشاور بن عباس وشبابا غيره مع الشيوخ وقد أفردنا لذلك بابا في كتاب العلم والحمد لله وفي قوله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا وإن لم يكن فيه تصريح بالرؤية فإنه قد جاء التصريح في ذلك في حديث بن عباس وغيره في قصة هلال بن أمية وفي قصة العجلاني أيضا من غير رواية مالك ونزول آية اللعان في ذلك وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((قد أنزل فيك وفي صاحبتك)) يعني آيات اللعان دليل على ما ذهب إليه مالك فالمشهور من مذهبه أن اللعان لا يجب حتى يقول الرجل لامرأته رأيتك تزنين أو ينفي حملا بها أو ولدا منها إلا أن الأعمى عنده يلاعن إذا قذف امرأته لم يختلف عنه في ذلك لأنه شيء يدركه بالحس واللمس وقول أبي الزناد ويحيى بن سعيد وعثمان البتي والليث بن سعد في ذلك كقول مالك أن اللعان لا يجب بالقذف المجرد وإنما يجب بادعاء رؤية الزنى ونفي الحمل مع دعوى الاستبراء وعندهم انه إذا قال لزوجته يا زانية جلد الحد لقول الله عز وجل (والذين يرمون المحصنت) وستأتي أحكام نفي الحمل وما لمالك - رحمه الله - وغيره في ذلك بعد هذا في معنى حديث بن عمر في هذا الباب إن شاء الله تعالى والحجة لمذهب مالك ومن تابعه فيما يوجب اللعان وعنده قائمة من الآثار المسندة وقد ذكرتها في ((التمهيد)) منها حديثه عن بن شهاب عن سهل بن سعد أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله ومثله حديث بن عباس من رواية القاسم بن محمد عنه رواه يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن القاسم عن بن عباس أنه ذكر المتلاعنان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عاصم بن عدي في ذلك قولا ثم انصرف فأتاه رجل من قومه يشكو إليه أنه وجد مع أهله رجلا فقال عاصم ما ابتليت بهذا إلا لقولي فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي وجد عليه امرأته وكان ذلك الرجل مصفرا قليل اللحم سبط الشعر وكان الذي ادعى عليه أنه وجد عند أهله خدلا آدم كثير اللحم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اللهم ! بين)) فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فقال رجل لابن عباس في المجلس أهي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لو رجمت أحدا بغير بينة رجمت هذه)) فقال بن عباس لا تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء وحديث عباد بن منصور عن عكرمة عن بن عباس أن سعد بن عبادة قال أرأيت لو وجدت لكاعا يتفخذها لم أهجه حتى آتي بأربعة شهداء الحديث وفيه أن هلال بن أمية وجد مع امرأته رجلا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال والله يا رسول الله ! لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه فنزلت (والذين يرمون أزوجهم) الآية وأسانيد هذه الأحاديث كلها في ((التمهيد)). قالوا فهذه الآثار كلها تدل على أن اللعان إنما نزل فيه القرآن وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الزنى فلا يجب أن تتعدى ذلك ولأن المعنى فيه حفظ النسب ولا يصح فساد النسب إلا بالرؤية وبها يصح نفي الولد بعد الاستبراء لا بنفس القذف المجرد وقياسا على الشهادة التي لا تصح في الزنى إلا برؤية وقال الشافعيون وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وأبو عبيد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود إذا قال الرجل لامرأته يا زانية وجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء وسواء عندهم قال لهما يا زانية أو رأيتك تزنين أو زنيت وهو قول جمهور العلماء وقد روى ذلك عن مالك أيضا وحجتهم أن الله - عز وجل - قال (والذين يرمون أزوجهم) [النور 6]. كما قال تعالى ( والذين يرمون المحصنت) [النور 4]. فأوجب بمجرد القذف الحد على الأجنبي إن لم يأت بأربعة شهداء وأوجب اللعان على الزوج إن لم يأت بأربعة شهداء فسوى بين الذميين بلفظ واحد وقد أجمعوا أن الأعمى يلاعن إذا قذف زوجته ولا تصح منه الرؤية واختلفوا في الأخرس فقال مالك والشافعي يلاعن الأخرس إذا فهم عنه. وقال أبو حنيفة لا يلاعن لأنه ليس من أهل الشهادة ولأنه قد ينطلق لسانه فينكر القذف واللعان فلا يمكننا إقامة الحد عليه واختلفوا في الزوج إذا أبى من اللعان بعد ما ادعاه من رؤية الزنى أو بعد قذفه لها فقال مالك والشافعي وجمهور الفقهاء إن لم يلتعن حد وحجتهم أن اللعان للزوج براءة كالشهادة للأجنبي براءة فإن لم يأت الأجنبي بأربعة شهداء حد فكذلك الزوج إن لم يلتعن حد وفي حديث بن عمر وغيره في قصة العجلاني لا يدل على ذلك لقوله أن قتلت قتلت وإن نطقت جلدت وإن سكت سكت على غيظ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له ولامرأته ((عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)) وسنذكر هذه الآثار فيما بعد إن شاء الله تعالى واختلفوا هل على الزوج أن يلاعن إذا أقام شهوده بالزنى فقال مالك والشافعي يلاعن كان له شهود أو لم يكن لأن الشهود لا عمل لهم إلا درء الحد. وأما رفع الفراش ونفي الولد فلا بد من اللعان لذلك وإنما تعمل شهادتهم في درء حد القذف عن الزوج وإيجابه عليها. وقال أبو حنيفة وأصحابه إنما جعل اللعان على الزوج إذا لم يكن له شهداء غير نفسه وهو قول داود واختلفوا في المرأة إذا أبت من اللعان بعد التعان الزوج فقال مالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأكثر السلف إن أبت أن تلتعن حدت وحدها الرجم إن كان دخل بها أو الجلد إن كان لم يدخل بها وحجتهم قول الله عز وجل (ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهدت بالله) الآية [النور 8]. وروى يزيد النحوي عن عكرمة عن بن عباس قال إذا لم يحلف المتلاعنان أقيم الجلد أو الرجم وقال الضحاك في قوله (ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهدت بالله الآية قال إن أبت أن تلاعن رجمت إن كانت ثيبا وجلدت إن كانت بكرا وهو قول الجمهور. وقال أبو حنيفة وأصحابه - وهو قول عطاء والحارث العكلي وبن شبرمة أريت إن لم تلعن قال إن أبت أن تلتعن حبست أبدا حتى تلتعن قال أبو عمر أظن أبا حنيفة وأصحابه جنبوا عن إقامة الحد عليها بدعوى زوجها ويمينه دون إقرار منها ولا بينه قامت عليها وجعلوا ذلك شبهة درأوا بها الحد عنها واحتج بعضهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)) وليس منها الملاعنة إذا أبت من اللعان وقد نقض أبو حنيفة ها هنا أصله في القضاء بالنكول عن اليمين في سائر الحقوق ولكنهم زعموا أن الحدود لا تؤخذ قياسا. وأما اختلافه في كيفية اللعان فاختلاف متقارب قال بن القاسم عن مالك يحلف أربع شهادات بالله يقول أشهد بالله لرأيتها تزني ويقول في الخامسة لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين وتحلف هي بمثل ذلك أربع مرات تقول في كل مرة أشهد بالله ما رآني أزني والخامسة غضب الله علي إن كان من الصادقين وقال الليث يشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى والخامسة أن لعنة عليه إن كان من الكاذبين وتشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ونحوه عن الثوري. وقال الشافعي يقول اشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميت زوجتي فلانة بنت فلان من الزنى ويشير إليها إن كانت حاضرة يقول ذلك أربع مرات ثم يقعده الإمام ويذكره الله ويقول له إني أخاف الله إن لم تكن صادقا فإن رآه يريد المضي أمر من يضع يده على فيه ويقول إن قولك وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين موجبة إن كنت كاذبا فإن أبى إلا اللعان تركه الإمام فيقول ولعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما ثبت من فلانة بنت فلان من الزنى وفي إحدى الروايتين عنه فإن رماها برجل بعينه قال من الزنى مع فلان وإن نفى ولدها قال مع كل شهادة أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى وإن هذا الولد لولد ما هو مني فإن كان حملا قال وإن الحمل - إن كان بها حمل من زنا - ما هو مني فإذا فرغ من هذا فقد فرغ من الالتعان ثم تشهد المرأة أربع شهادات أنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى فإن نفى الحمل قالت وإن هذا الحمل منه وإن كان ولدا قالت وإن هذا لولده وعلي غضب الله إن كان من الصادقين في شيء مما رماني به. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا لم يكن ولد شهد أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى والخامسة اللعن وتشهد هي أربعا والخامسة الغضب فإن كان هناك ولد نفاه شهد أربعا أنه لصادق فيما رماها من الزنى ونفي الولد يذكر الولد في اللعان أنه نفاه حتى يلزم أمه وقال زفر مثل ذلك إلا انه يخاطبها وتخاطبه فيقول أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنى وتقول هي أشهد بالله أنك لمن الكاذبين فيما رميتني به من الزنى وروى مثل ذلك الحسن بن زياد عن أبي يوسف وكان زفر يقول في نفي الولد أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتها به من نفي ولدها هذا ويقول في الخامسة ولعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من نفي ولدها ثم تقول المرأة أشهد بالله أنك لمن الكاذبين فيما رميتني به من نفي ولدك والخامسة علي غضب الله إن كنت من الصادقين فيما رميتني به من نفي ولدي هذا. 1153- مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر إن رجلا لاعن امرأته في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفل من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة قال أبو عمر هكذا قال يحيى انتفل من ولدها وقال سائر الرواة عن مالك وانتفى من ولدها والمعنى قريب من السواء قال أبو عمر. وأما قوله فانتفى من ولدها فيحتمل أن يكون الولد حيا ظاهرا في حين اللعان فانتفى منه إما لغيبة غابها أو لاستبراء ادعاه لم يعلم بحملها حتى وضعته أو ما أشبه هذا مما ينفي عنه أنه أقر به وقتا ما ثم جحده ونفاه بعد ويحتمل أن يكون انتفى من ولدها وهو حمل ظاهر بها وقد اختلف الفقهاء في وقت نفي الولد باللعان فقال مالك إذا رأى الحمل فلم ينفه حتى وضعته لم ينتف عنه بعد ذلك وإن نفاه حرة كانت أو أمة فإن انتفى منه حين ولدته وقد رآها حاملا فلم ينتف منه فإنه يجلد الحد إذا كانت حرة مسلمة لأنه صار قاذفا لها فإن كان غائبا عن الحمل فقدم وقد ولدته فله أن ينفيه وقال الليث فيمن أقر بحمل امرأته ثم قال بعد ذلك رأيتها تزني لاعن في الرؤية ولزمه الحمل. وقال الشافعي إذا علم الزوج بالحمل فأمكنه الحاكم إمكانا بينا فترك اللعان لم يكن له أن ينفيه كالشفعة هذا قوله في الجديد وقال في القديم إن لم ينفه في يوم أو يومين لم يكن له أن ينفيه وقال بمصر لو قال قائل له نفيه مدة ثلاثة أيام من وقت علم به يأتي فيها الحاكم أو يشهد كان مذهبا قال وأي مدة إن قلت له نفيه فيها فأشهد على نفسه وهو مشغول بما يخاف فوته بمرض أو كان مسافرا فأشهد ولم يسر فهو على نفيه وكذلك الغائب إذا قال لم أصدق حملها أو الحاضر إن قال لا أعلم قال ولو رآها حبلى فلما ولدت نفاه وقال لم أدر أنه حمل كان له نفيه. وقال أبو حنيفة إذا ولدت فنفى ولدها من يوم يولد أو بعده بيوم أو بيومين لاعن وانتفى الولد فإن لم ينفه حتى مضت سنة أو سنتان ثم نفاه لاعن ولزمه الولد ولم يؤقت أبو حنيفة لذلك وقتا ووقت أبو يوسف ومحمد مقدار النفاس أربعين ليلة قال وقال أبو يوسف إن كان غائبا فقدم فله أن ينفيه ما بينه وبين مقدار النفاس منذ يوم قدم ما كان في الحولين فإن قدم بعد الحولين لم ينتف عنه أبدا قال أبو عمر جملة قول مالك وأصحابه أن الحمل لا ينفيه الزوج بما يدعيه من رؤية الزنى ولا ينتفي الحمل إلا بدعوى الاستبراء وأنه لم يطأ بعد أن استبرأ والاستبراء عند مالك وبن القاسم حيضة وقال عبد الملك بن عبد العزيز لا تستبرأ الحرة في ذلك بأقل من ثلاث حيض ورواه عن مالك وقال بن القاسم إن لم يكن الحمل ظاهرا بإقراره أو بينة يشهد له به لم ينفه لعانه ولحق به وقال بن القاسم لو أكذب نفسه في الاستبراء وادعى الولد لحق به وهو أدنى اللعان نفيناه عنه وصار قاذفا لها بنفيه ولدها وقال المغيرة المخزومي إن أقر بالحمل وأدعى رؤيته لاعن فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من يوم الرؤية فهو له فإن كان لستة أشهر فأكثر فهو اللعان فإن أدعاه لحق به وحده قال المغيرة ويلاعن في الرؤية من يدعي الاستبراء وجملة قول الشافعي وأصحابه أن كل من نفى الحمل وقال ليس مني لاعن وانتفى عنه الولد إلا أن يكون علم فسكت على ما مضى من قوله في توقيت المدة في ذلك. وقال أحمد وأبو ثور وداود نحو قول الشافعي ولا معنى عند الشافعي للاستبراء لأن المراة قد تحمل مع رؤية الدم وتلد مع الاستبراء. وأما أبو حنيفة وأصحابه فلا يجوز عندهم اللعان على الحمل. وقال أبو حنيفة إذا قال ليس هذا الحمل مني لم يكن قاذفا لها فإن ولدت ولو بعد يوم لم يلاعن بالقول الأول حتى ينفيه بعد الولادة وهو قول زفر وقول الثوري وقال أبو يوسف ومحمد إن جاءت به بعد هذا القول لأقل من ستة أشهر لاعن وقد روي عن أبي يوسف أنه يلاعنها قبل الولادة وهو قول بن أبي ليلى وعبيد الله بن الحسن ومالك والشافعي وأبي ثور وأبي عبيد كلهم يقول يلاعن على الحمل الظاهر وقد روى الربيع عن الشافعي لا يلاعنها حتى تلد وكذلك قال أحمد بن حنبل قال ولو نفى الحمل في التعانة عن قذفها لم ينتف ولدها عنه حتى ينفيه بعد وضعها ويلاعن وهو قول بن الماجشون في الملاعنة على الحمل قال عبد الملك بن الماجشون لا يلاعن على الحمل لأنه قد ينفش فيكون قولا على ريح ومن نفى حمل امرأته عند مالك وعبيد الله بن الحسن وبن أبي ليلى وقال ليس مني لاعنها لأنه قاذف لها. وقال الشافعي لا يلاعنها إلا أن يقذفها لأنه لا يقول لم يصح عندي حملها فينتفي قذفها عنه. وقال أبو حنيفة إنكار الحمل من أشد القذف قال أبو عمر لا يصح عند الشافعي القذف إلا بالتصريح البين قال أبو عمر ومن لم ير اللعان على الحمل حتى تلد زعم أن الحمل لا يقطع على صحته لأنه قد ينفش ويضمحل قال فلا وجه للعان بغير استيقان ومن رأى اللعان على الحمل إذا نفاه فحجته الآثار المتواترة من حديث بن عباس وحديث بن مسعود وحديث أنس وحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين المتلاعنين وقال إن جاءت به على صفة كذا فهو لزوجها وإن جاءت به على صفة هذا فما أراه إلا قد صدق عليها وهذا يدل على أنها كانت حاملا وقد ذكرنا كثيرا من هذه الأحاديث في ((التمهيد)) وهي متكررة في المصنفات والمسانيد وأجمعوا على أنه من أقر بالحمل وبان له ولم ينكره ولم ينفه ثم نفاه بعد ذلك لم ينفعه ذلك ولحق به الولد ويجلد الحد إلا عند أبي حنيفة وأصحابه والثوري فإنه يلاعن ولا يجلد على أصلهم. وأما قول بن عمر فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما - يعني بين المتلاعنين - فإن العلماء اختلفوا في كيفية وقوع الفرقة بين المتلاعنين فقال مالك والليث إذا فرغا جميعا من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق بينهما الحاكم وبه قال زفر وأبو عبيد وأبو ثور وهو عندي معنى قول الأوزاعي لآنه قال لا تقع الفرقة بلعان الزوج وحده قال ولو التعن الزوج ثم مات فلا لعان ولاحد ويتوارثان. وقال الشافعي إذا قال الزوج الشهادة الخامسة والالتعان فقد زال فراش امرأته ووقعت الفرقة بينهما قال ولو لم يكمل الخامسة ومات ورثه ابنه وزوجته. وقال أبو حنيفة وأصحابه لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما وبه قال الثوري وأحمد قال الثوري إذا تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبدأ وكذلك قال أحمد بن حنبل وقال عثمان البتي وطائفة من أهل البصرة أخذو ذلك عنه إذا تلاعنا فلا أرى اللعان ينقص شيئا يعني من العصمة قال وأحب إلي أن يطلق وقال عبيد الله بن الحسن اللعان تطليقة بائنة وحجة مالك ومن قال بقوله أن اللعان أوجب الفرقة التي قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند فراغهما من لعانهما وقال له ((لا سبيل لك عليها)) إعلاما منه بأن اللعان رفع سبيله عنها حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني بكر بن حماد قال حدثني مسدد قال حدثني موسى بن يونس. وحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني محمد بن شاذان قال حدثني معلى بن منصور قال حدثني يحيى بن أبي زائدة قال حدثني عبد الملك بن أبي سليمان قال سمعت سعيد بن جبير يقول سئلت عن المتلاعنين زمن مصعب بن الزبير أيفرق بينهما قال فما دريت ما أقول فمضيت إلى منزل بن عمر بمكة فقلت للغلام استأذن لي قال إنه قائل فسمع صوتي قال بن جبير قلت نعم قال أدخل فوالله ! ما جاء بك هذه الساعة إلا حاجة فدخلت فإذا هو مفترش برذعة متوسد وسادة حشوها ليف قلت أبا عبد الرحمن ! المتلاعنان أيفرق بينهما قال سبحان الله ! نعم إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان قال يا رسول الله ! أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع إن تكلم تكلم بأمر عظيم وان سكت سكت على مثل ذلك قال فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتاه فقال إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور (والذين يرمون أزوجهم) [النور 6]. فتلاهن عليه ووعظه وذكره. وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قال لا والذي بعثك بالحق ! ما كذبت عليها ثم دعاها فوعظها وذكرها. وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قالت لا والذي بعثك بالحق ! إنه لكاذب فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما. وحدثني سعيد بن نصر وعبد الوارث قالا حدثني قاسم قال حدثني محمد بن إسماعيل قال حدثني الحميدي قال حدثني سفيان عن عمرو عن سعيد بن جبير عن بن عمر قال فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين وقال ((حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها)). قال يا رسول الله ! ما لي قال ((ما لك إن كنت صادقا فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت فهو أبعد لك)). قال الشافعي تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين تفريق حكم ليس لطلاق الزوج فيه مدخل وإنما هو تفريق أوجبه اللعان فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ((لا سبيل لك عليها)). قال أبو عمر هذا كله معنى قول مالك ومذهبه وفي قوله عليه السلام ((لا سبيل لك عليها)) دلالة واضحة أن اللعان هو الموجب للفرقة بينهما وأن الحاكم إنما ينفذ في ذلك الواجب من حكم الله تعالى ولم يكن تفريق النبي -عليه السلام- بين المتلاعنين استئنافا من حكم وإنما كان تنفيذا لما أوجب الله تعالى من المباعدة بينهما وهو معنى اللعان في اللغة فعلى الحاكم أن يعلمها بأن اللعان فراق بينهما وأن قصر عن ذلك ولم يقل فرقت بينهما فالفرقة واقعة بتمام اللعان لقوله صلى الله عليه وسلم ((لا سبيل لك عليها)) وحجة الشافعي في قوله إذا أكمل الزوج التعانة عليها إلى آخر الخامسة وقعت الفرقة بينه وبين امرأته وزال فراشه التعنت المرأة أو لم تلتعن أنه لما كان التعان الزوج يسقط الحد عنه وينفي الولد عن فراشه إن نفاه في التعانه كان كذلك قطع العصمة ورفع الفراش ووجوب الفرقة لأن المرأة لا مدخل لها في الفراق وقطع العصمة ورفع الفراش وإنما ذلك بيد الزوج ولا معنى لالتعان المرأة ألا في درء الحد عنها قال الله تعالى (ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهدات بالله إنه لمن الكذابين والخمسة) الآية [النور 8]. ولما اتفقوا أن الزوج بالتعانه ينتفي عنه الولد إن نفاه كان كذلك برفع عصمة النكاح إلا ترى أن معنى التعان الزوج والتعان المرأة متضادان لأن الزوج يدعي ما يوجب الفرقة ويحلف عليه والمرأة تنفي المعنى الموجب لوقوع الفراق فكيف يعتبر في رفع العصمة التعانها وهي مكذبة لزوجها وفي وقوع النسب الموجب للفراق أم كيف يرتفع النسب وينفي النكاح وحجة الكوفيين ومن قال بقولهم في أن الفرقة لا تقع بتمام اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما حديث بن عمر وحديث سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين فأضاف الفرقة إليه لا إلى اللعان فلا تقع الفرقة حتى يقول الحاكم قد فرقت بينهما ويعلم من حضرة بذلك ويشهدهم قالوا ولما كان اللعان مفتقرا إلى حضور الحاكم كان مفتقرا إلى تفريقه بخلاف الطلاق وقياسا على العنين لأنه لا تقع الفرقة بينه وبين امرأته إلا بحكم الحاكم بذلك واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وهو مذهب أهل المدينة ومكة والكوفة والشام ومصر أن اللعان لا يفتقر إلى طلاق وأن حكمه وسنته الفرقة بين المتلاعنين إما باللعان وإما بتفريق الحاكم على ما ذكرنا من مذاهبهم وقال عثمان البتي وطائفة من أهل البصرة لا ينقص اللعان شيئا من العصمة حتى يطلق الزوج وهذا قول لم يتقدم البتى إليه أحد فيما علمت ولا له من الآثار الواردة بالسنن ما يدل عليه لأن طلاق عويمر العجلاني بعد تمام التعانها لم يكن بأمر النبي -عليه السلام- ولا قال له النبي - عليه السلام أحسنت ولا فعلت ما كان يجب عليك ولو كان الطلاق واجبا ومحتاجا إليه لبينه صلى الله عليه وسلم لأنه بعث إلى الناس معلما وهم لا يعلمون شيئا وقد قال له أو أخبره ((لا سبيل لك عليها)) عند تمام اللعان بينهما فبان بذلك أن طلاق العجلاني لم يكن له معنى إلا قوله كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ليدل بذلك عند نفسه على صدقه ولم يكن ذلك يدخل داخله في حكمه فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ولا نهاه ولا أمره لأن طلاقه كان لا معنى له وقد بان في حديث بن وهب عن عياض بن عبد الله الفهري عن بن شهاب أن قوله في آخر حديث مالك بإثر ذكر الطلاق فكان ذلك سنة المتلاعنين إنما أراد الفرقة وألا يجتمعا أبدا كذلك ذكره بن وهب عن عياض عن بن شهاب في آخر حديثه في اللعان وساقه كنحو سياقه مالك له وقال في آخره ومضت سنة المتلاعنين أن يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا ذكره بن وهب في ((موطئه)) عن عياض بن عبد الله الفهري عن بن شهاب في حديثه عن سهل بن سعد في اللعان وعياض هذا قد روى عنه الليث وغيره وهو من شيوخ أهل مصر وقد احتج من قال إن طلاق الثلاث المجتمعات تقع السنة بحديث سهل بن سعد في طلاق عويمر العجلاني زوجته ثلاثا ولم ينكر ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لو كان وقوع طلاق الثلاث المجتمعات لا يجوز لنبيه صلى الله عليه وسلم وأنكره عليه وقال له كيف تطلق ثلاثا في مرة واحدة وذلك لا يجوز في ديننا وشريعتنا ونحو ذلك فلما لم ينكر عليه شيئا من ذلك دل على جوازه. وأما من قال لا تقع السنة وإنما هي بدعة لازمة لموقعها فإنه قال لما لم يكن موضع طلاق لأن فرقة اللعان أقوى من فرقة الطلاق لم يحتج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إنكار ذلك عليه لأنه فعل فعلا لا معنى له وقد أوضحنا هذه المسألة واجتلبنا أقوال القائلين فيها في أول كتاب الطلاق. وأما قول بن عمر في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وألحق الولد بالمرأة ومنهم من يرويه وألحق الولد بأمه فمعلوم أن الأم لا ينتفي عنها ولدها أبدا وأنه لاحق بها على كل حال لولادتها له لكن معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى بانتفاء الولد عن أبيه بلعانه ألحقه بأمه خاصة كأنه لا أب له فلا يرث أباه ولا يرثه أبوه ولا أحد بسببه وقيل بل ألحقه بأمه فجعل أمه له كأبيه وأمه ولهذا الحديث اختلف العلماء -والله أعلم- في ميراث ولد الملاعنة وسنورد هذا في بابه بعد هذا إن شاء الله تعالى قال مالك السنة عندنا أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدا وإن أكذب نفسه جلد الحد وألحق به الولد ولم ترجع إليه أبدا. وقال مالك وعلى هذا السنة عندنا التي لا شك فيها ولا اختلاف قال أبو عمر على هذا المذهب الشافعي والثوري والأوزاعي والحسن بن حي والليث وبه قال زفر بن الهذيل وأبو يوسف وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود كل هؤلاء يقولون في المتلاعنين إنهما لا يجتمعان أبدا سواء كذب نفسه أو لم يكذبها ومتى أكذب نفسه جلد الحد وإن كان هناك ولد لحق به ولا يجتمعان أبدا وروي ذلك عن عمر وعلي وبن مسعود قال الشافعي لا يجتمعان أبدا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ((لا سبيل لك عليها ولم يقل له إلا أن تكذب نفسك فصار كالتحريم المؤبد في الأمهات ومن ذكر معهن وهذا شأن تحريم مطلق التأبيد ألا ترى أن المطلق ثلاثا لما لم تكن بائنة أوقع فيه الشرط بنكاح زوج غيره ولو قال فإن طلقها فلا تحل له لكان نهيا مطلقا لا تحل له أبدا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلق التحريم في الملاعنة ولم يقيده بوقت فهو مؤبد فإن أكذب نفسه لحق به الولد لأنه حق جحده ثم أقر به فلزمه وليس النكاح كذلك لأنه حق ثبت عليه فليس يتهيأ له إبطاله والله أعلم وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن إذا أكذب الملاعن نفسه ضرب الحد ولحق به الولد وكان خاطبا من الخطاب إن شاء وهو قول سعيد بن المسيب والحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير واختلف في ذلك عن إبراهيم النخعي وبن شهاب الزهري فروي عنهما القولان جميعا وقال الشعبي والضحاك إن أكذب نفسه جلد الحد وردت عليه امرأته وروي عن بن شهاب مثله وهو عندي قول تالف خلاف من قال يكون خاطبا من الخطاب وقد روي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري وسعيد بن جبير وإن شاء ردها وقد يحتمل الوجهين جميعا أيضا وحجة من قال إذا أكذب نفسه عاد إلى نكاحه أو حل له نكاحها إجماعهم على أنه إذا أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد قالوا فيعود النكاح حلالا كما عاد الولد لأنه لا فرق بين شيء من ذلك والحجج لهذه الأقوال من جهة المقايسات والنظر فيها تشعيب وليس في المسألة أثر مسند قال مالك وإذا فارق الرجل امرأته فراقا باتا ليس له عليها فيه رجعة ثم أنكر حملها لاعنها إذا كانت حاملا وكان حملها يشبه أن يكون منه إذا ادعته ما لم يأت دون ذلك من الزمان الذي يشك فيه فلا يعرف أنه منه قال فهذا الأمر عندنا والذي سمعت من أهل العلم قال مالك وإذا قذف الرجل امرأته بعد أن يطلقها ثلاثا وهي حامل يقر بحملها ثم يزعم أنه رآها تزني قبل أن يفارقها جلد الحد ولم يلاعنها وإن أنكر حملها بعد أن يطلقها ثلاثا لاعنها قال وهذا الذي سمعت قال أبو عمر إنما قال ذلك في المسالتين لأنه إذا قذفها بعد أن طلقها ثلاثا فقد قذف أجنبية ولا لعان بين أجنبيين ويلزمه حد القذف وإن لم يأت بأربعة شهداء يشهدون له بما رماها به كما يلزم الأجنبي. وأما إذا أنكر حملها بعد أن بت طلاقها وكان إنكاره لحملها في عدتها أو في مدة بعد العدة يلحق فيها الولد بصاحب الفراش فإنه يلاعنها لأنها في حكم الزوجة في المدة التي يلحق به فيها ولدها وذلك خمس سنين عندهم على اختلاف في ذلك سنذكره عنهم وعن سائر العلماء في موضعه إن شاء الله عز وجل وقد روى يحيى عن بن القاسم في الذي يطلق امرأته ثلاثا ثم يقذفها في عدتها ويقول رأيتها تزني في عدتها أنه لا يلاعن وهذا خلاف مالك في ((الموطأ)) وقال سحنون إن رماها في وقت إن قد بقي من العدة ما لو أبت فيه يولد من يوم رماها لزمه الولد فإنه يلاعن وإن كان وقتا لو أتت فيه بولد لم يلحقه فإنه يحد ولا يلاعن وقال يحيى قال بن القاسم إن أتت المرأة بولد بعد انقضاء العدة إلى أقصى ما تلد له النساء فإنه يلزم الزوج إلا أن ينفيه بلعان قال أبو عمر هذا لا شك ولا خلاف عندهم فيه - أعني مالكا وأصحابه ولم يختلف في المبتوتة تنقضي عدتها ثم يقذفها الزوج المطلق لها ويقول رأيتها تزني أنها تحد ولا يلاعن. وأما قول سائر الفقهاء في هذا الباب فقال بن شبرمة إذا ادعت المرأة حملا في عدتها فأنكر ذلك الذي تعتد منه لاعنها وان كانت في غير عدة جلد الحد ولحق به الولد وقال محمد بن الحسن عنه وعن أصحابه في رجل طلق امرأته تطليقة يملك الرجعة فجاءت بولد بعد سنة فنفاه أنه يلزمه ويضرب الحد لأنه قذفها وقال الطحاوي يثبت الحد والنسب لأن الحمل كان وهي زوجته ويحد لأن القذف وقع وهي غير زوجة وقال الحسن بن حي في الطلاق البائن يحد ويلزمه الولد وعند الشافعي إذا نفى ولدا أو حملا التعن في العدة وبعدها وكذلك لو نفى الولد بعد موتها التعن وإذا لم ينف حملا ولا ولدا وقذفها وهي مبتوتة حد. وأما اختلافهم فيمن قذف امرأته فطلقها ثلاثا فقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا حد ولا لعان وحجتهم أن الله - عز وجل - أوجب على الزوج اللعان وعلى الأجنبي الحد إن لم يأتوا بالشهداء واعتبروا ذلك برجوع الشهود فقالوا ألا ترى أن شهودا لو شهدوا بزنا فحكم الحاكم بهم ثم رجعوا لكان رجوع الشهود يسقط الحد عن الأجنبي وكذلك حدوث الفرقة قبل اللعان مسقطا. وقال مالك والأوزاعي والشافعي والليث يلاعن لأن القذف كان وهي زوجة وبه قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وهو قول الحسن والشعبي والقاسم بن محمد قال أبو عمر لما أجمعوا أنه قذفها وهي أجنبية ثم تزوجها ولم يلاعنها كان كذلك إذا قذفها وهي زوجة ثم بانت لم يبطل اللعان وقالوا لو قذفها بعد أن بانت منه بزنا نسبه إليها إلا أنه كان وهي زوجة حد ولا لعان إلا أن ينفي ولدا وفي المسألة قول ثالث فيمن طلق امرأته ثلاثا بعد القذف أنه يحد ولا يلاعن قاله مكحول والحكم وجابر بن زيد والحارث العكلي وقتادة قال أبو عمر لأنه قاذف غير زوجه في حين المطالبة بالقذف قال مالك والعبد بمنزلة الحر في قذفه ولعانه يجري مجرى الحر في ملاعنته غير أنه ليس على من قذف مملوكه حد قال مالك والأمة المسلمة والحرة النصرانية واليهودية تلاعن الحر المسلم إذا تزوج إحداهن فأصابها وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه (والذين يرمون أزوجهم) [النور 6]. فهن من الأزواج وعلى هذا الأمر عندنا قال مالك والعبد إذا تزوج المرأة الحرة المسلمة أو الأمة المسلمة أو الحرة النصرانية أو اليهودية لاعنها هذا قوله في ((موطئه)) وروى بن القاسم عنه أنه قال ليس بين المسلم والكافرة لعان إذا قذفها إلا أن يقول رأيتها تزني فيلاعن سواء ظهر الحمل أو لم يظهر لأنه يقول أخاف أن أموت فيلحق بي نسب ولدها قال بن القاسم وإنما يلاعن المسلم الكافرة في دفع الحمل ولا يلاعنها فيما سوى ذلك وكذلك زوجته الأمة لا يلاعنها إلا في نفي الحمل ورواه عن مالك قال والمحدود في القذف يلاعن قال وإن كان الزوجان جميعا كافرين فلا لعان بينهما يعني إلا أن يتحاكموا إلينا قال والمملوكان المسلمان بينهما اللعان إذا أراد أن ينفي الولد وقال الثوري والحسن بن حي لا يجب لعان إذا كان أحد الزوجين مملوكا أو كافرا ويحد إن كان محدودا في قذف وقال الحسن ليس بين المملوكين والمشركين حد في قذف ولا لعان ولا يلاعن المحدود في القذف وقال الأوزاعي لا لعان بين أهل الكتاب ولا بين المحدود في القذف وامرأته. وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا كان أحد الزوجين مملوكا أو ذميا أو محدودا في قذف أو كانت المرأة ممن لا يجب على قاذفها حد فلا لعان بينهما إذا قذفها وقال بن شبرمة يلاعن المسلم زوجته النصرانية إذا قذفها وقال عثمان البتي كل من قذف زوجته بأمر زعم أنه رآه ولا يبين لغيره فإنه يلاعن وقال الليث في العبد إذا قذف امرأته الحرة وادعى أنه رأى عليها رجلا لاعنها لأنه يحد لها إذا كان أجنبيا فإن كانت أمة أو يهودية أو نصرانية لاعنها في الولد إذا ظهر بها حمل ولا يلاعنها الرؤية لأنه لا يحد لها في القذف قال والمحدود في القذف يلاعن امرأته. وقال الشافعي كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض يلاعن إذا كانت ممن يلزمها الفرض وأجمعوا أنه لا حد على من قذف محدودا أو محدودة في زنا إذا رماها بذلك الزنى ولكنه يعزر لأنه أذى المسلمة قال أبو عمر حجة من لم ير اللعان إلا بين الزوجين الحرين المسلمين البالغين قياسا على إجماعهم أنه ليس على من قذف ذمية أو مملوكة حد وجعلوا قوله (والذين يرمون أزوجهم) [النور 6]. مثل قوله والذين (6والذين يرمون المحصنت) [النور 4]. ذمية ولا أمة قالوا وكذلك الزوجان وحجة من قال اللعان بين كل زوجين ما احتج به مالك من عموم الآية في قوله (والذين يرمون أزواجهم) [النور 6]. لم يخص حرة من أمة ولا مسلمة من ذمية فواجب إلا يخص نفسه إلا بزوج بإجماع أو سنة ثابتة وذلك معدوم فوجب حمل الآية على العموم كما حمل قوله - عز وجل - و(إذا طلقتم النساء) البقرة 231و 232 و(للذين يؤلون من نسائهم) [البقرة 226]. على العموم ولا معنى لقولهم إن المحدود في القذف لا يلاعن لأنه لا تجوز شهادته والله قد قال ( فشهادة أحدهم) [النور 6]. وقد أجابهم الشافعي بأن قال هذا جهل بلسان العرب لأن الشهادة ها هنا يمين واليمين تكون ممن تجوز شهادته وممن لا يجوز وكيف تكون شهادة من يشهد لنفسه مرة ويدرأ الحد أخرى في الحر وقد أجمعوا في اللعان بين الفاسقين فسقط ما ذكروه من الشهادة فالحر والعبد والأمة أولى بذلك في الفاسقين والكلام في هذا طويل قال مالك في الرجل يلاعن امرأته فينزع ويكذب نفسه بعد يمين أو يمينين ما لم يلتعن في الخامسة إنه إذا نزع قبل أن يلتعن جلد الحد ولم يفرق بينهما قال أبو عمر قد تقدم أن الحد على ما وصفه مالك وهو أمر لا اختلاف فيه وظاهر هذه المسألة في ((الموطأ)) يدل على أنه إذا التعن الخامسة فرق بينهما ولم تحل له وهذا هو الذي ذهب إليه الشافعي وليس ذلك بمذهب لمالك عند أحد من أصحابه بل مذهبه عند جماعتهم أن الفرقة بينهما لا تجب إلا بتمام التعانهما وفي ((العتبية)) لأصبغ عن بن القاسم ما يشبه مسألة ((الموطأ)) هذه في الرجل يتزوج المرأة في عدتها من غيره وينفي الولد أنه يلتعن ولا تلتعن المرأة لأن ولدها راجع إلى فراش الثاني إذا أتت به لستة أشهر فصاعدا من يوم نكحها فإن فارقها الثاني لم تحل للأول الملتعن أن يتزوجها وهذا نحو ما وصفنا وقال سحنون تقدم وتحل له وقد تقدم ما للعلماء في هذا المعنى فلا وجه لإعادته هنا قال مالك في الرجل يطلق امرأته فإذا مضت الثلاثة الأشهر قالت المرأة أنا حامل قال إن أنكر زوجها حملها لاعنها قال أبو عمر قول من قال يلاعن عدد الحمل ومن أبى من ذلك لم يلاعن حتى تضع وقد مضى ذلك كله وما فيه للعلماء قال مالك في الأمة المملوكة يلاعنها زوجها ثم يشتريها إنه لا يطؤها وإن ملكها وذلك أن السنة مضت أن المتلاعنين لا يتراجعان أبدا قال أبو عمر قد مضى القول في تحريم فراق المتلاعنين أنه تحريم أبدي لا تحل له بحال وقد مضى الاختلاف في ذلك ووجوهه وأصلها أن المبتوتة لما لم تحل له بملك يمينه حتى تنكح زوجا غيره وكذلك الملاعنة لا تحل له بوجه من الوجوه لأنه لم يرد فيها حتى تنكح زوجا غيره كما ورد في المطلقة المبتوتة قال مالك إذا لاعن الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فليس لها إلا نصف الصداق قال أبو عمر على هذا جماعة فقهاء الأمصار لأنه فراق جاء من قبله قياسا على الطلاق قبل الدخول وقال أبو الزناد والحكم وحماد لا لها الصداق كاملا لأن اللعان ليس بطلاق وقال الزهري لا صداق لها كأنه جاء الفراق من قبلها والصواب القول الأول وعليه الجمهور وبالله التوفيق قال أبو عمر اللعان معناه قذف الرجل امرأته ولا يوجب القذف تحريمها عليه وهذا قول أهل الحجاز وأهل الكوفة ولا أعلم مخالفا لهم إلا طائفة من أهل البصرة تقول إن زوجته تحرم عليه بالقذف الموجب للحد أو اللعان وهذا عند أكثر أهل العلم قول مهجور وقد تعلق به أبو عبيد القاسم بن سلام واستحسنه وهو ضعف من القول ولهذه المسألة تفسير يطول ذكره يأتي في موضعه إن شاء الله عز وجل.
|